الذكاء الاصطناعي معالم اقتصادية.. (مقال)

الذكاء الاصطناعي

عندما نتحدث عن التقنية، يكون الأمر متعدد الجوانب. وإذا كان هناك من تقنيات تحمل قيمة متصاعدة، ومثيرة للحديث، ورصد الواقع، واستشراف المستقبل بشأنها، فإن تقنية الذكاء الاصطناعي تأتي في مقدمة مثل هذه التقنيات. فهي تقنية متميزة تقوم بنشاطات معرفية ذكية، ولها تطبيقات في مختلف مجالات الحياة، تزيد من فاعلية هذه المجالات، وتعزز أداءها. وقد بدأنا في المقالات السابقة طرح جوانب هذه التقنية، واستعنا في ذلك ببعض الحقائق والإحصائيات الواردة في “تقرير دليل الذكاء الاصطناعي” الصادر عن جامعة ستانفورد الشهيرة 2023، الذي يرصد سنويا حالة هذا الذكاء في العالم من خلال ثمانية جوانب أساسية. وتشمل هذه الجوانب شؤون البحث والتطوير، والمعطيات التقنية، والأخلاقيات، والاقتصاد، والتعليم، والحوكمة، والتعددية، وآراء العموم. وقد اهتمت المقالات السابقة بالجوانب الثلاثة الأولى منها.

 

يركز هذا المقال على الجانب الاقتصادي، ولعل من أبرز الموضوعات الاقتصادية التي يمكن طرحها بشأن تقنية الذكاء الاصطناعي، موضوعات الوظائف، والاستثمار، والمنتجات. إذا بدأنا بموضوع الوظائف، نجد أن إحصائيات دليل ستانفورد تبين أن نسبة الوظائف المعلنة في الموضوعات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة الأمريكية بلغت 2022 ما يزيد على “2 في المائة” من مجمل الوظائف المعلنة في مختلف المجالات، أي ما يزيد على “700 ألف وظيفة”، وأن هذه النسبة لم تكن تتجاوز “0.8 في المائة” 2014. تبين هذه الإحصائيات أيضا، أنه على الرغم من أن هذه النسبة لا تصل في دول العالم الأخرى إلى المستوى الأمريكي “2 في المائة”، إلا أن تزايدها قائم أيضا، في دول أخرى مثل كندا، والسويد، وسويسرا، وبريطانيا، وألمانيا، وغيرها، ما يدل على تزايد فرص العمل في مجال الذكاء الاصطناعي، في الدول المهتمة بشؤونه.

وإذا تساءلنا عن موضوعات الذكاء الاصطناعي الأكثر إعلانا للوظائف، لوجدنا إجابة عن ذلك في تقرير ستانفورد، حيث يشير التقرير إلى أن حجم الإعلانات يضع الموضوعات في الترتيب التسلسلي التالي: موضوع تعلم الآلة، ثم موضوع الوسائل الذكية، فموضوع معالجة اللغات الطبيعية، ثم الشبكات العصبية، والقيادة الآلية، وملاحظة الأشكال، ويضاف إلى كل ذلك أيضا موضوع الروبوتات. وإذا أردنا أن نتعرف على المهارات الأساسية المطلوبة لوظائف الذكاء الاصطناعي، لوجدنا أيضا إجابة في تقرير ستانفورد. فقد بين التقرير أن هذه المهارات، تتضمن برمجة الحاسوب بمختلف أشكالها، وكذلك التعامل مع البيانات وتحليلها، وتستند أيضا إلى أسس علوم الحاسب، وهندسة البرمجيات.

 

 

علينا، أمام بشرى وظائف الذكاء الاصطناعي ومؤشرات تزايدها، أن نتذكر أن ما تقدمه هذه الوظائف من معطيات في هذا الذكاء، يمكن أن يؤدي إلى إخراج الوظائف الروتينية التقليدية من دائرة العمل، ليسبب بطالة غير محمودة. وقد وردت إحصائيات تشير إلى مثل ذلك في تقرير المخاطر الصادر عن المنتدى الاقتصادي الدولي هذا العام 2023. فقد ذكر هذا التقرير، اعتمادا على إحصائيات منظمة العمل الدولية، أن العالم خسر “14 مليون” وظيفة من الوظائف التقليدية، وكسب “12 مليون” وظيفة من الوظائف الحديثة. أي أن الحصيلة كانت خسارة “مليوني” وظيفة، وذلك خطر يجب التنبه له. والحل المستقبلي المقترح لهذه المشكلة هو السعي إلى إيجاد نماذج عمل ذكية، تسعى إلى الاستفادة من مزايا معطيات الذكاء الاصطناعي، جنبا إلى جنب مع العمل على الاستفادة من مزايا الذكاء الطبيعي لدى الإنسان. فلكل من الذكاءين تميز على الآخر في مهمات محددة.

 

من موضوع شؤون العمل والوظائف، ننتقل إلى موضوع الاستثمار في الذكاء الاصطناعي. وتشير الإحصائيات الواردة تقرير ستانفورد إلى أن مجمل الاستثمارات العالمية في هذا الذكاء تضاعفت “13 مرة” بين عامي 2013 و2022. فقد وصل حجم هذه الاستثمارات 2022 إلى نحو “190 مليار دولار”. لكن الأمر السلبي في هذا الاستثمارات، على الرغم من تزايدها الكبير عبر السنين، هو أنها انخفضت فقط بين عامي 2021 و2022.

 

تنقسم مصادر الاستثمارات سابقة الذكر إلى ثلاثة أقسام رئيسة. المصدر الأهم، والأكبر حجما، بينها هو الاستثمار المباشر للقطاع الخاص، يليه استثمار القطاع العام. ثم هناك استثمارات ناتجة عن توجهات في إدارة الأعمال، مثل اندماج الشركات أو استحواذ شركات على أخرى، بهدف تعزيز الإمكانات، والتوجه بها نحو المجالات الواعدة، مثل مجال الذكاء الاصطناعي.

 

ونأتي إلى موضوع منتجات الذكاء الاصطناعي العاملة والمؤثرة اقتصاديا في أرض الواقع، ونطرح مثالا عنها هو مثال الروبوتات الصناعية. وتعرف هذه الروبوتات على أنها أجهزة ذاتية التحكم، وقابلة للبرمجة، وإعادة البرمجة، لأداء أعمال صناعية مختلفة، في شتى أنواع المصانع، من خلال حركة ثلاثية الأبعاد، من موقع ثابت أو ربما من موقع متحرك أيضا. ويزيد عدد الروبوتات الصناعية المستخدمة، على مستوى العالم، حاليا عن “ثلاثة ملايين روبوت”. وقد شهد 2021 إطلاق ما يزيد على “نصف مليون روبوت”، ولم يتجاوز هذا الرقم “150 ألفا” 2012.

 

تحتل الصين المركز الأول عالميا في عدد الروبوتات الصناعية التي تستخدمها. وتأتي بعد ذلك اليابان، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، فكوريا الجنوبية، ثم ألمانيا، وإيطاليا. وتحتل سنغافورة الجزيرة الصغيرة الواقعة جنوب شرقي آسيا المركز الـ13 بين الدول الـ15 الأكثر استخداما للروبوتات الصناعية. ويلاحظ عدم وجود دول إفريقية، وعدم وجود دول من أمريكا الجنوبية بين هذه الدول. ولا شك أن استخدام عديد من الروبوتات الصناعية، في دولة من الدول، يحد من الوظائف المتاحة للبشر فيها، لكنه يعبر في الوقت ذاته عن مدى التقدم الصناعي الذي تشهده، الذي يمكن أن يعطيها الخبرة اللازمة لابتكار أنظمة أعمال جديدة تستفيد من ذكاء الإنسان إلى جانب استفادتها من الروبوتات.

 

لعل هذا المقال قد استطاع طرح بعض ملامح الجانب الاقتصادي لمشهد الذكاء الاصطناعي في عالم اليوم. فقد ألقى الضوء على ثلاثة موضوعات اقتصادية رئيسة من هذا المشهد تمثلت في الوظائف، والاستثمارات، والروبوتات الصناعية. ولنا عودة لاستكمال الجوانب الأخرى لهذا المشهد في المقالات القادمة بمشيئة الله.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *