عندما تمرُّ بعض البلدان في أزمات اقتصادية خانقة تهدد الأمن والاستقرار المجتمعي فيها لا بد من اتباع منهجية إصلاح جذرية، بحيث يتم مغادرة الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذه الأزمة، وتغيير المنهجية السابقة، والانتقال إلى آفاق جديدة مختلفة، هذا ما يتفق عليه العقلاء وأهل الإدارة وأصحاب الاختصاص بلا خلاف، فليس معقولاً أن تنتظر نتائج مختلفة بتكرار الأدوات نفسها والأساليب ذاتها.
الحكومة الأردنية تمر بأزمة اقتصادية خانقة، ووزير المالية معني بتدبير رواتب الشهر، فهو ليس معنياً بسماع خطط الاصلاح ولا الكلام عن الاستراتيجيات والمنهجيات، فهو بحاجة إلى تحصيل (450) مليون دينار من أجل تسهيل عملية الحصول على قرض من صندوق النقد بـ (1000) مليون من أجل تسليك الحال بوصفة سريعة، ولكن المشكلة أننا منذ سنوات طويلة ونحن نعيش الحالة نفسها ودائماً يتم الضغط على البرلمان وعلى الشعب من أجل تمرير قوانين جديدة مجحفة تحت ضغط الحاجة الملحة، سواء كان ذلك في موضوع ضريبة الدخل أو ضريبة المبيعات أو الضرائب الأخرى التي أصبحت تشكل عبئاً مضاعفاً لا يستطيع الشعب الأردني تحمله في ظل ارتفاع قيم التضخم وثبات الدخل وتآكل قيمته الشرائية.
هناك دول كثيرة مرت بأزمات اقتصادية مستفحلة، وهناك تجارب ناجحة قريبة ومشهودة، تستحق الدراسة بعناية، منها على سبيل المثال ماليزيا وتركيا، حيث كانتا تعاني من تدهور مريع واقتصاد تبعي متخلف، ولكنهما الآن أصبحا في مصاف الدول ذات الاقتصاديات القوية على مستوى العالم، فتركيا الآن تحتل المرتبة (17) على مستوى العالم من حيث ترتيب الدول في القوة الاقتصادية، وتصنف ماليزيا بأنها ثالث أكبر اقتصاديات منطقة جنوب شرق آسيا، وتحتل المرتبة (29) على مستوى العالم، ويقدر الناتج المحلي الماليزي بـ (492.4) مليار دولار.
الاهتمام بالتجربة الماليزية يأتي من خلال نجاحها وقدرتها على معالجة أزمتها وفق نموذجها الخاص بها البعيد عن تدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فقد مرت ماليزيا بأزمة خانقة شملت معظم دول منطقة جنوب شرق آسيا، التي كان يطلق عليها نمور آسيا عام (1997م)، وقد استطاعت أن تنتقل وتنهض من اقتصاد التبعية والتخلف، وتحولت من بلد يعتمد على تصدير المواد الأولية البسيطة إلى بلد يصدر السلع والتقنية الصناعية المتقدمة واستطاع الخروج من الأزمة وتجاوزها من خلال اعتماد برنامج اقتصادي وطني متميز وسياسة نقدية ملتزمة بشروط المصلحة الوطنية وليس من خلال الاعتماد على الآخرين الذين يبغون الاستثمار في الأزمات العالمية.
التجربة الأخرى الناجحة هي التجربة التركية التي وقعت في أزمة خانقة ووقعت في مصيدة الديون الخارجية والداخلية الضخمة التي أصبحت مع فوائدها تلتهم الجزء الأكبر من واردات الدولة حيث كانت الديون التركية عام (1980م) تقدر بـ (15.7) مليار دولار وفائدة تقدر بمليار دولار، وفي عام (1999م) بلغت الديون التركية (155) مليار دولار، وبفائدة سنوية تقدر بـ (5) مليارات دولار، ويقدر الاقتصاديون أن تركيا دفعت ما يقارب (427) مليار دولار قيمة القروض والفوائد خلال عشرين عاماً. وفي عام (2001م) هبطت الليرة التركية ليصبح الدولار الأمريكي يساوي (1500.000) ليرة تركية، وانهار السوق المالي التركي الذي كان يعتمد اعتماداً كلياً على الاستثمار الأجنبي، وبعد هذا الانهيار باشرت تركيا ببرنامج اصلاح اقتصادي طموح يقوم على رفع الناتج المحلي التركي وخفض التضخم وإعادة ثقة المستثمرين وخفض البطالة ومحاربة الفساد بشكل صارم واستطاعت انجاز ما أطلق عليه (المعجزة الاقتصادية التركية) بحسب تقرير معهد واشنطن. حيث تضاعف حجم الاقتصاد التركي ليصل إلى (1.1) تريليون دولار ويصبح أكبر اقتصاد في منطقة البحر المتوسط، وتراوحت نسبة النمو الاقتصادي خلال العقد السابق من 6-8%.
نحن في الأردن بحاجة إلى خطة إصلاح اقتصادي جذري يتجاوز حالة الاقتصاد التبعي، والانتقال إلى اقتصاد وطني قوي، من خلال محاربة الفساد بصرامة، وتنمية الموارد المحلية والاستثمار في الإنسان الأردني، والتخلي عن سياسة الاعتماد على المنح الخارجية، والبدء بسياسة التقشف وخفض النفقات، وإصلاح الجهاز الإداري وضمان الشفافية والمراقبة والمحاسبة وتحديث النظام الضريبي ليكون عادلاً، والاهتمام بمصادر الطاقة البديلة عبر تكامل مسارات الاصلاح السياسي والتعليمي والاقتصادي بطريقة شاملة ومتوازية.