الوضع الاقتصادي وما يرتبط به من أخبار ومؤشرات كلية ليس محل اهتمام للكثير من الناس. وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على مصر، لكنها قد تكون أكثر حدة في مصر مقارنة بالدول الغربية. ولعل من أسباب ذلك هو الصورة الذهنية التي تكونت في أذهان العوام عن الاقتصاديين وعن استخدام الكثير منهم للغة معقدة في شرح الاقتصاد وكذلك استدلالهم بكمية هائلة من المؤشرات الاقتصادية المحيرة والتي قد تكون متضاربة في بعض الأحوال. بالإضافة لذلك، يختلف الاقتصاديون بين بعضهم البعض في الكثير من القضايا الأساسية نظراً لإختلاف إنحيازتهم مما يحير عوام الناس. كما أن بعض الاقتصاديين قد يعمدون إلى توظيف المؤشرات الاقتصادية لخدمة أهداف سياسية سواء بتهوين خطورة الوضع الاقتصادي لدعم النظام أو تهويله في حالة معارضة النظام.
وعلى الرغم من وجود بعض الاقتصاديين ممن يحافظون على موضوعيتهم في التحليل إلا أن هذه الصورة الذهنية السلبية مترسخة بشكل كبير، وما يزيدها عمقا هو عدم ثقة الكثير من الناس في دقة المؤشرات الاقتصادية التي تنشرها الهيئات الحكومية وغياب الخلفية المطلوبة عن مفاهيم الاقتصاد لدى الكثير من العوام. كما أن هذه الصورة الذهنية أوجدت حاجزاً نفسيا لدى معظم الناس وأقنعتهم بعدم جدوى متابعة وضع الاقتصاد ومؤشراته لكونها لا تفيدهم في شيء ولا تعكس واقع حياتهم اليومية. لكن هل هذا الكلام حقيقي؟
في الواقع يتأثر الناس بشكل مباشر بالوضع الاقتصادي العام. فنمو الاقتصاد يخلق فرص عمل جديدة ويساهم في تحسين مستوى دخل الأفراد، بينما الركود عادة ما يصاحبه تسريح للعمالة وتدهور في مستوى معيشة الأفراد. كما أن استقرار الأسعار في السوق تسهل حياة الناس وتضمن لهم الحفاظ على قوتهم الشرائية، بينما فترات التضخم تؤدي إلى تآكل القوة الشرائية وإفقار الأفراد. ولذلك فإن وضع الاقتصاد العام له أثراً مباشراً على حياة الناس ولعل ذلك ما دفع الاقتصادي الأمريكي “آرثر أوكون” لإطلاق ما أسماه “مؤشر البؤس” في الستينيات في فترة حكم الرئيس “جونسون”، بهدف قياس ما يمر به عموم الناس اقتصاديا ومعرفة ما إذا كانوا في حالة اقتصادية جيدة أم بائسة.
مؤشر البؤس في أبسط صوره يتم حسابه بجمع معدلات البطالة والتضخم. ويقيس معدل البطالة نسبة من لا يستطيعون الحصول على فرصة عمل مقارنة بإجمالي القوة العاملة في السوق، بينما يقيس معدل التضخم نسبة الزيادة السنوية في أسعار سلة من السلع والخدمات الرئيسية في السوق. وبطبيعة الحال يكره الناس ارتفاع معدلات البطالة والحاجة للجلوس على المقاهي طويلا في انتظار فرصة عمل، كما يكرهون الارتفاعات الكبيرة والمتكررة في الأسعار. ولذلك كلما ارتفاع قياس المؤشر، كلما ساءت حالة الناس الاقتصادية وازدادوا بؤساً، حتى وإن حقق الاقتصاد معدلات نمو مرتفعة في نفس الفترة.
وبالنظر لمؤشر البؤس في مصر، نجد أنه بدأ الألفية الجديدة (2000) عند مستوى منخفض سجل 12 في المائة، لكنه سرعان ما ارتفع ليصل لمتوسط 16 في المائة في السنوات التالية (2000-2008) حتى الوصول إلى الأزمة المالية العالمية (2008) والتي كان لها أثرا كبيرا مما دفع المؤشر إلى تسجيل أعلى معدلاته ليتخطى 27 في المائة، ثم ما لبث أن انخفض بعدها ليقارب 20 في المائة قبل اندلاع ثورة 25 يناير، والتي أدت إلى اضطراب الوضع السياسي وانعكست بالطبع على الوضع الاقتصادي مما أدى إلى ارتفاع المؤشر في السنوات الثلاثة التي أعقبت الثورة ليقارب23 في المائة في المتوسط، ثم ليسجل في نهاية يونيو الماضي 23.9 في المائة حيث سجل معدل البطالة 13.3 في المائة بينما معدل التضخم 10.6 في المائة، بناءً على الأرقام الرسمية، مما جعل مصر تحتل المركز الخامس عالمياً في ترتيب الدول الأكثر بؤساً، في دراسة أعدتها “وكالة بلومبرج”.
وهذا التطور التاريخي لمؤشر البؤس لا ينبغي المرور عليه مرور الكرام. فحينما كانت الحكومات في العقد السابق لثورة 25 يناير تتباهى بمعدلات النمو الاقتصادي المذهلة، كان عوام الناس يضجون من تدهور وضعهم الاقتصادي ويؤكدون أن معدلات النمو لا تعكس واقعه، وهو ما يوضحه مؤشر البؤس الذي تضاعف مستواه في هذا العقد ليؤكد ما كان يشعر به الناس من معاناة. وحينما يشكو الناس مؤخرا أن الثورة لم تأت لهم إلا بمزيد من المعاناة الاقتصادية والتدهور في حياتهم اليومية، فإن ذلك ليس مبالغاً فيه وهو ما يؤكده أيضا ارتفاع مؤشر البؤس في السنوات الأربعة الأخيرة.
بناءاً على ما سبق، ليس من المنطقي اعتبار أن وضع الاقتصاد ومؤشراته الكلية في معزل عن حياة الناس. حتى مع شكوك البعض في مدى دقة الأرقام الرسمية، فإن مقارنة مستوى المؤشرات عبر فترة زمنية ممتدة تستطيع أن تعكس الكثير من التطورات الاقتصادية وما ينتج عنها من أثر على حياة الناس اليومية. وفيما يقبع الاقتصاد المصري في حالة من الركود التضخمي، فإن تباطوء النمو الاقتصادي سينعكس على الإبقاء على معدلات بطالة مرتفعة، بينما التضخم المرتقب، الناتج عن ارتفاع الدولار ورفع أسعار الطاقة، سيؤدي بلا شك لمزيد من الارتفاع في معدلات التضخم مما يعني بدوره أن مدى البؤس الذي يعاني منه الناس سيكون على الأرجح في طريقه للزيادة.
الخلاصة أن الصورة الذهنية السلبية عن الاقتصاد والاقتصاديين قد أفقدت الكثير من الناس الرغبة في متابعة وضع الاقتصاد ورسخت لديهم فكرة إنعزال مؤشرات الاقتصاد الكلية عن واقع حياتهم اليومية. لكن هذا الإفتراض ليس واقعياً والنظر لتطور “مؤشر البؤس” من مطلع الألفية وحتى الآن يعكس معاناة الناس وتدهور حالتهم حتى وإن تباهت الحكومات بمعدلات النمو الاقتصادي. ولذلك فمن مصلحة عوام الناس متابعة وضع الاقتصاد العام لما لذلك من أثر على حياتهم اليومية. فالمؤشرات الاقتصادية الكلية على الرغم من أنه لا يمكن الاعتماد عليها بالكامل في تفسير حالة الناس إلا أنها تستطيع أن تشرح الكثير، إذا تم النظر إليها بشكل موضوعي ومتكامل.